المخاطيط دولة القضاء العرفي
صفحة 1 من اصل 1
المخاطيط دولة القضاء العرفي
1. الملام:
قلنا إنه لكل قبيلة ثلاثة ملام, وقد يبدأ التقاضي عند الملام والملم مجلس تحقيقي يشبه في عمله النيابة في القضاء المدني, فهو لا يغرم ولا يجرم ولا يأخذ ورقة في الظروف العادية ومن عنده تحال القضايا إلى القضاة المختصين, فهو مدفن حصى للقا (للقاء) عند القضاة, وقد يعود إليه القضاة إذا تنازع الطرفان حول أمر ما.
2.الكبار:
كل قبيلة لها ثلاثة كبار معروفين, فهم يستطيعون البث في كل المسائل وبإمكانهم حل أي خلاف, وقد يحيل الكبار بعض القضايا إلى ذوي الاختصاص طلبا للعدالة. والكبار هم أهل العلم ويلقبون بالكواكب لشهرتهم العالية وهم يشذبون الأحكام العرفية لتتلائم مع العصر ويحددون قيمة الدية مدة فورة الدم. وهم الذين يبنون الصيرة ويهدمونها والصيرة حطب يرص ويبنى على شكل نص دائرة تذري سكانها من إنسان وحيوان من الريح, فالكبار إذن هم عماد البيت ويعالجون كافة القضايا من أخطاء وسرقات وخطأ اللسان والضرب والمشاجرات, فهم كمحكمة الصلح والمحكمة الجزائية وقد يحيل الكبار بعض القضايا إلى أصحاب الاختصاص كما أسلفنا فهم الذين يحيلون إلى المنشد وأهل الرسان وأهل الديار وإلى البشعة.
2. المناشد:
وهو نوعان: منشد إنشادة ومنشد قطع حق
1. الاول مأخوذ من كلمة نشد التي يستعملها البدو بمعنى سأل, فتحال إليه القضية من عند الملم من أجل مسألته هل يلحق صاحب هذه القضية منشد قطع الحق أم لا, ويدفع الطرفان عند هذا القاضي رزقة تبلغ تسعة إيل في بعض الأحيان وعلى وجه الدفة تبلغ عشر الطلابة.
2. منشد قطع الحق: تحال إليه القضايا الواضحة برضى الطرفين أو من عند قاضي المنشد السابق, وقاضي المنشد هذا هو الذي يفرض الغرامة وقالوا عنه منشد <<قرض وفرض>> أي هو الذي يقرض ويفرض وعلى الجاني أن يتحمل. والذي يدفع الرزق عند منشد قطع الحق هو الجاني فقط ولا يحق له أن يدلي بحجة (مبلم ما يتكلم) وقالوا يدفع رزقه ويتأخر في الوراء و (رزقة عله( عليه وحجة ماله) وصاحب الحق يدلي بحجة قد تم الاتفاق عليها من عند القاضي المحيل لا ينبغي له الزيادة فهي مكفولة ومشهود عليها.
أما القضايا التي تستحق حق المنشد فهي قضايا العرض وتشمل صايحة الضحى, قذف امرأة بالفحش, كذا الاعتداء على رجل في بيته وانتهاك حرمة البيت (وتحدد بالبيت وأطرافه التي تضم المسافة التي تصل إليها العصى حين رميها من البيت) وتقدر بأربعين خطوة, وتقطيع الوجه الذي يعني الإساءة بعد أن يأخذ أحدهم كفيل دفا أو بعد أن يرمي أحدهم وجهه على قضية كأن يقول: وجي عليها أو عرضي عليها أو عليها وجه فلان (حتى لو كان غائباً).
وقاضي المنشد غالبا ما يكون واحدا وحيدا إلا إذا استقل المجني عليه الحق, فيحق له طلب المنشد الثاني والثالث.
ونورد هنا نموذجا لحق المنشد صدر بشأن رجل اعتدى على امرأة في بيتها ضحى, فصاحت المرأة مستغيثة ونازعته, فقد ثوبها وبدد خرز قلادتها (خلي ثوبها قدايد وخرزها بداية) فهذه <<صايحة الضحى>> في العرف البدوي وكان حكم المنشد فيها:
ويترتب على الجاني دفع ناقة عن كل خطوة خطاها في اتجاه بيت المرأة من مقامه, وعشرة إبل عن دخول البيت, وتبتر يده التي لامست المرأة أو تفدى بالمال, وجمل أوضح, خادم تقود وعبد يسوق, يدهن هذا الجمل بالقطران, ويتجرد المعتدي من ثيابه و يعبط هذا الجمل فكل بقعة من جسم الجاني أثر فيها القطران تقطع أو تسلخ من جسده أو تفدى بالمال, وعليه إحضار بيت حديد يبيد الزمان وهو ما يبيد, وعبد طوله شبران ما يشرد من دبيب الخيل, وكل بند من البنود السابقة يوضح أمامه مبلغا من المال إما أن ينفذ أو يدفع بدلا عنه <<وأحيانا كثيرة يظل قاضي المنشد يعدد معاجز كثيرة فترى أحدهم يجثم عليه ويضع يده على فم القاضي كي يكف عن الزيادة.
وعلى الجاني أن يبيض البيت الذي دخله بقماش أبيض, ويرفع ثلاث رايات بيضاء في ثلاثة دواوين لقبائل مشهورة وفي كل ديوان يقول راية فلان بيضا <<ويذكر اسم والد المرأة واسمها مباشرة).
وهذه الأحكام التي تبدو جائرة قصد منها ردع كل من تسول له نفسه بالاعتداء على أعراض الناس, فهم يخشون ذلك خشيتهم من الوقوع في النار, لأن قاضي المنشد لا يرحم, وبعد حساب مقدار الحق يتدخل الناس نساء ورجالا وأطفالا ووجهاء لدى صاحب الحق كي يتنازل عن بعضه رأفة بالجاني, ولكن ما يتبقى يظل رادعا ومجهدا, إذ قد يبيع الرجل وخمسته كل ما يملكون من إبل وشياه وعقار كي يفوا بالتزاماتهم التي أصبحت في عرض الكفيل. هذا إذا رضي أهل المرأة بالقضاء, بل في العادة يغبرون على الجاني وخمسته ويعيثون فسادا وتقتيلا وعقرا وحرقا.
قضاة خاصون:
1. الضريبي:
وكان اسمه مشتق من المضاربة لأنه يفصل بين الطرفين المتنازعين في أحقية رفع القضية إلى قضاة تغريم أم لا, وكأن الطرفين يتراهنان وهو يفصل بينهما, وتحال إليه القضايا من عند الملام للبت في جوازها, فهو لا يغرم ولا يجرم بل يحيل بدوره إلى القضاة المختصين وعمله في ذلك يماثل الكبار, وتعتمده بعض القبائل اعتمادا رئيسيا مثل قبيلة السواركة والرميلات بينما تكتفي بعض القبائل بالكبار وقد يقضي الضريبي في القضايا العادية.
إذا الضريبي يفرز القضايا التي تعرك وتدرك ويحيل القضايا التي يرى أنها تستأهل إلى الزبادي أو المنشد أو أهل الرسان أو الديار.
2.الزيادي:
هو الذي يختص في القضايا التي يزيد حقها عن ثمنها أو تتضاعف غرامتها فتكون مثناة أو مربعة فيختص في معالجة قضايا وسق الإبل بدون حق حيث إن وسق الإبل أو غيرها لا يجوز إلا بعد أنه يرفض المعتدي دفع ما عليه من حق لغريمه وبعد أن يرسل له ثلاث بدوات وفي كل مرة يشهد ويودع عندها يحق له وسق الإبل كي يجبر صاحبها على الانصياع للحق.
والزيادي يختص في قضايا الإبل نهبها وسقها وسرقتها وشرائها من صغية وقص وبرها, كما يعالج قضايا الأغنام كسر قتها أو الاختلاف على بيعها وقضايا العداية.
فالزيادة يختص في القضية التي تلحق مرتكبها زيادة عن قمتها نظرا لارتكابه الإثم أو وقع فيما يعرك ويدرك في مفهوم البدو. فإذا قرر الضريبي أن هذه المسألة تعرك وتدرك يرفعها إلى الزيادي ليحدد قيمة الغرامة ويخسر الجاني.
3. مناقع الدموم:
منقع الدم هو المكان الذي يجتمع فيه الدم كغدير الماء, والدموم جمع دم ويستشف من التسمية أن هؤلاء القضايا يختصون في مسائل الدم, سواء القتل أو الجروح البليغة والكسور, وفي تحديد الديات وتقدير قيمة الإصابات, ويطلق عليه اسم القصاصين أيضا, ومعظم مناقع الدموم في النقب وسيناء من قبيلة بلي مثل الهرفي وابن دلاخ وأبو دهثوم وأبو القيعان وابن حبينان.
4. أهل الديار:
هم القضاة المختصون بالأرض وكل ما يتعلق بها من بيع وشراء ورهن وارث وحدود ويطلق عليهم اسم أصحاب القطاعات أيضا. وهم غالبا ما يكونون من أصحاب الأملاك, وهم ليسوا بالضرورة من قبيلة واحدة بل نجد أن بعضهم من القرويين أمثال النجار, أبي شعث, زعرب الأسطل, ويتقاضى عندهم البدو.
• وقد قال أحدهم في حجته دالا على ملكيته الأزلية لقطعة أرض: <<من يوم انبسط ترابها وزعق غرابه وأنا كرابها>> (أي حارثها) وقال الآخر في الغرض نفسه: <<من يوم هب ريحها ونبت شيحها وأنا فليحها>>.
فحكم القاضي بشأن هذه الأرض أن هذه الأرض لمن يسبق على استملاكها من الناس وحرم المتنازعين منها لكذبهما.
5. أهل الرسان:
هم القضاة المختصون بقضايا الخيل, وهم لاشك من أصحاب الخيول الأصلية يعرفون أصولها وأنواعها وأمراضها, وتعالج عندهم المشاكل الناجمة عن بيعها أو تفييضها أو تشبيتها أو إعارتها أو سرقتها ورعيها لمزروعات الغير, وهم على علم أكيد بصفائها ونقائها وعندهم دلائل خاصة يسترشدون بها نظرا للخبرة وطول المشاهدة.
ـ هناك قضاة عديدون ينتخبهم البعض لحل المشاكل المتعلقة باختصاص كل منهم, فقد نجد أحدهم يخط لصاحبه ثلاثة من أرباب الفلايح, وهم مزارعون لديهم معرفة بشؤون الزراعة والمزارعة سواء البعلية أو المسقية وما يستحقه المزارع والشريك وصاحب الأرض.
فبعضهم يخط ثلاثة تجار إن كان الأمر متعلقا بالتجارة, وقد يخطط آخر ثلاثة صيادين لأمور الصيد, أو ثلاثة كيفية إن كان الأمر يتعلق بالكيف من قهوة وشاي أو تبع. وهناك من يقول هذا لك ثلاثة هجانة إن تعلق الأمر بالسباق أو ثلاثة كرابة قشاط كناية عن التهريب وأموره, فهم قد اعتادوا على كرب أحزمة إبلهم لينقلوا عليها المخدرات من بلاد أخرى فهم أدرى بما يتعلق بشؤون التهريب من مشاكل وقد تحال القضية مباشرة إلى ثلاثة مهربين وقد يتقاضى اثنان عند ثلاثة كتاب إن تعلق الخلاف بشأن القراءة أو الكتابة. إذن القضاة الفرعيون لا حصر لهم واكتفينا بذرك القضاة الأساسيين وأسلوب وحيثيات القضاء.
من سمات القضاة:
والقضاء يكون محصورا في عائلات معروفة ومحددة من العشائر وعلى الخاط أن يذكر اسم القاضي وكنيته كي لا يحدث التباس أو مراوغة. فعند ذكر اسم العائلة فقط قد يذهب أحد الفريقين إلى القاضي المشهور بينما يذهب القبيل إلى رجل آخر من نفس العائلة, فلا يتقابل الطرفان في مقعد واحد وإذا طولب الطرف الذي تخلف عن الحضور عند القاضي الرسمي يسأل القاضي من حضر: (أنتم سميتم) أو (خططتم قضاة مسميين أو مغميين) أي ذكرتم أسماء القضاة بأسمائهم أو بكناهم. فإن قيل من قبل الشهود أنهم مسميون يخسر الغائب القضية أما إذا قال أنهم مغميون يعاد إلى ذكر الأسماء صريحة في بيت الملم, ومعروف أن ميعاد التقاضي <<ميعاد فلج>> أي أن المتخلف يخسر ويفلج.
ـ أحيانا يتهرب القضاة من استقبال القضية والحكم بها, ويتذرعون بالشغل أو المرض وقد يكون من أسباب ذلك تفاهة القضية أو عوج المتقاضين أو الخوف من مجانبة الإنصاف أو خشية الاتهام بالميل لأحد الخصمين, خصوصا إذا كانت هناك صلة قرابة بين القاضي وأحد المتخاصمين. وقد يحيل القاضي المتخاصمين إلى قاض آخر أو إلى أحد أقاربه.
ومن المأثور أن العرب كانوا لا يفضلون أن يعملوا قضاة خشية الوقوع في الخطأ وظلم الناس <<عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال : من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين>> وقال مكحول: <<لو خيرت بين القضاء وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي>> وقد ضرب ابن هبيرة أبا حنيفة نحوا من مئة سوط مفرقة على أن يلي القضاء فأبى>>.
وإذا مرض القاضي قد يرفع الميعاد لأجل آخر أو تحال القضية إلى قاض آخر. أما إذا توفي القاضي يعين رجال القبيلة قاضيا من نفس العائلة ممن لهم خبرة في القضاء ومشهود لهم بالنزاهة وحسن التدبير.
ـ وكثيرا ما نجد القاضي يستشير بعض العقلاء في حق جريمة ما, وأحيانا يرفع الميعاد أياما وأسابيع ليكون لديه متسع من الوقت للمشاوة والتثبت.
ومن المأثور أن أحد القضاة العرب احتار بشأن إنسان قدم إليه مع قوم حين طلب منه تحديد حصة هذا المخلوق من الإرث فلم يستطيع القاضي معرفة أهو ذكر أو أنثى, فأخذ القاضي يحوش حول الخباء, فرأت ابنته حيرته وسألته عن السبب فأخبرها بأمره, فقالت على عجل <<اتبع مبوله>> فأسرع إلى القوم الذين ينتظرونه وقال <<هذا يتبع مبوله>> (أي إن كان العضو الذي يبول منه بارزا عد ذكر أو إن كان غائرا فهي انثى).
ـ والقضاء لا يبت إلا في قضايا جادة ومدركة ومكفولة, ويترفع عن هذر الرعيان وعبث الصبية سواء كان ذلك في بيت الملم أو القاضي فالقضاة لا يأخذون بتكهنات العرافين أو المنجمين والسحرة وإنما يتحرون الحقائق العلمية, ويبحثون عن العدل والإنصاف فقالوا: دورناها ولقيانها والحق الواكد ما عنه>>( بحثنا عن الحقيقة ولا مناص من الحق الأكيد).
وقالوا: <<وكاد وهرج ركاد (أي شيء أكيد وقول ناضح هادئ) كما أن نقاش القضية يجب أن يكون أمام الملأ>> في سمع وجمع <<لا وراء الكواليس وديوان وبكرج مليان>> ( في مقعد للرجال يحتسون فيه القهوة الجاهزة لا في الخلاء) وقيل <<هرج مقرع في بيت مشرع>> و<<في حنية وركبة مثنية>> (أي في مجلس عامر بالرجال الجالسين لا النائمين المضطجعين) والحديث مبني على حقائق دامغة وقالوا في علاج المماطل الذي يتهرب عن الحقيقة<<إن لقيت اللوى الوى>> (أي إن وجدت من يناطح بقرون من طين ويجادلك بغير حق جادله, واللوى مشتقة من الفعل لوى وكأن المقصود إذا وجدت من يريد لوي عنق الحقيقة فجادله سولا تستلم).
قلنا إنه لكل قبيلة ثلاثة ملام, وقد يبدأ التقاضي عند الملام والملم مجلس تحقيقي يشبه في عمله النيابة في القضاء المدني, فهو لا يغرم ولا يجرم ولا يأخذ ورقة في الظروف العادية ومن عنده تحال القضايا إلى القضاة المختصين, فهو مدفن حصى للقا (للقاء) عند القضاة, وقد يعود إليه القضاة إذا تنازع الطرفان حول أمر ما.
2.الكبار:
كل قبيلة لها ثلاثة كبار معروفين, فهم يستطيعون البث في كل المسائل وبإمكانهم حل أي خلاف, وقد يحيل الكبار بعض القضايا إلى ذوي الاختصاص طلبا للعدالة. والكبار هم أهل العلم ويلقبون بالكواكب لشهرتهم العالية وهم يشذبون الأحكام العرفية لتتلائم مع العصر ويحددون قيمة الدية مدة فورة الدم. وهم الذين يبنون الصيرة ويهدمونها والصيرة حطب يرص ويبنى على شكل نص دائرة تذري سكانها من إنسان وحيوان من الريح, فالكبار إذن هم عماد البيت ويعالجون كافة القضايا من أخطاء وسرقات وخطأ اللسان والضرب والمشاجرات, فهم كمحكمة الصلح والمحكمة الجزائية وقد يحيل الكبار بعض القضايا إلى أصحاب الاختصاص كما أسلفنا فهم الذين يحيلون إلى المنشد وأهل الرسان وأهل الديار وإلى البشعة.
2. المناشد:
وهو نوعان: منشد إنشادة ومنشد قطع حق
1. الاول مأخوذ من كلمة نشد التي يستعملها البدو بمعنى سأل, فتحال إليه القضية من عند الملم من أجل مسألته هل يلحق صاحب هذه القضية منشد قطع الحق أم لا, ويدفع الطرفان عند هذا القاضي رزقة تبلغ تسعة إيل في بعض الأحيان وعلى وجه الدفة تبلغ عشر الطلابة.
2. منشد قطع الحق: تحال إليه القضايا الواضحة برضى الطرفين أو من عند قاضي المنشد السابق, وقاضي المنشد هذا هو الذي يفرض الغرامة وقالوا عنه منشد <<قرض وفرض>> أي هو الذي يقرض ويفرض وعلى الجاني أن يتحمل. والذي يدفع الرزق عند منشد قطع الحق هو الجاني فقط ولا يحق له أن يدلي بحجة (مبلم ما يتكلم) وقالوا يدفع رزقه ويتأخر في الوراء و (رزقة عله( عليه وحجة ماله) وصاحب الحق يدلي بحجة قد تم الاتفاق عليها من عند القاضي المحيل لا ينبغي له الزيادة فهي مكفولة ومشهود عليها.
أما القضايا التي تستحق حق المنشد فهي قضايا العرض وتشمل صايحة الضحى, قذف امرأة بالفحش, كذا الاعتداء على رجل في بيته وانتهاك حرمة البيت (وتحدد بالبيت وأطرافه التي تضم المسافة التي تصل إليها العصى حين رميها من البيت) وتقدر بأربعين خطوة, وتقطيع الوجه الذي يعني الإساءة بعد أن يأخذ أحدهم كفيل دفا أو بعد أن يرمي أحدهم وجهه على قضية كأن يقول: وجي عليها أو عرضي عليها أو عليها وجه فلان (حتى لو كان غائباً).
وقاضي المنشد غالبا ما يكون واحدا وحيدا إلا إذا استقل المجني عليه الحق, فيحق له طلب المنشد الثاني والثالث.
ونورد هنا نموذجا لحق المنشد صدر بشأن رجل اعتدى على امرأة في بيتها ضحى, فصاحت المرأة مستغيثة ونازعته, فقد ثوبها وبدد خرز قلادتها (خلي ثوبها قدايد وخرزها بداية) فهذه <<صايحة الضحى>> في العرف البدوي وكان حكم المنشد فيها:
ويترتب على الجاني دفع ناقة عن كل خطوة خطاها في اتجاه بيت المرأة من مقامه, وعشرة إبل عن دخول البيت, وتبتر يده التي لامست المرأة أو تفدى بالمال, وجمل أوضح, خادم تقود وعبد يسوق, يدهن هذا الجمل بالقطران, ويتجرد المعتدي من ثيابه و يعبط هذا الجمل فكل بقعة من جسم الجاني أثر فيها القطران تقطع أو تسلخ من جسده أو تفدى بالمال, وعليه إحضار بيت حديد يبيد الزمان وهو ما يبيد, وعبد طوله شبران ما يشرد من دبيب الخيل, وكل بند من البنود السابقة يوضح أمامه مبلغا من المال إما أن ينفذ أو يدفع بدلا عنه <<وأحيانا كثيرة يظل قاضي المنشد يعدد معاجز كثيرة فترى أحدهم يجثم عليه ويضع يده على فم القاضي كي يكف عن الزيادة.
وعلى الجاني أن يبيض البيت الذي دخله بقماش أبيض, ويرفع ثلاث رايات بيضاء في ثلاثة دواوين لقبائل مشهورة وفي كل ديوان يقول راية فلان بيضا <<ويذكر اسم والد المرأة واسمها مباشرة).
وهذه الأحكام التي تبدو جائرة قصد منها ردع كل من تسول له نفسه بالاعتداء على أعراض الناس, فهم يخشون ذلك خشيتهم من الوقوع في النار, لأن قاضي المنشد لا يرحم, وبعد حساب مقدار الحق يتدخل الناس نساء ورجالا وأطفالا ووجهاء لدى صاحب الحق كي يتنازل عن بعضه رأفة بالجاني, ولكن ما يتبقى يظل رادعا ومجهدا, إذ قد يبيع الرجل وخمسته كل ما يملكون من إبل وشياه وعقار كي يفوا بالتزاماتهم التي أصبحت في عرض الكفيل. هذا إذا رضي أهل المرأة بالقضاء, بل في العادة يغبرون على الجاني وخمسته ويعيثون فسادا وتقتيلا وعقرا وحرقا.
قضاة خاصون:
1. الضريبي:
وكان اسمه مشتق من المضاربة لأنه يفصل بين الطرفين المتنازعين في أحقية رفع القضية إلى قضاة تغريم أم لا, وكأن الطرفين يتراهنان وهو يفصل بينهما, وتحال إليه القضايا من عند الملام للبت في جوازها, فهو لا يغرم ولا يجرم بل يحيل بدوره إلى القضاة المختصين وعمله في ذلك يماثل الكبار, وتعتمده بعض القبائل اعتمادا رئيسيا مثل قبيلة السواركة والرميلات بينما تكتفي بعض القبائل بالكبار وقد يقضي الضريبي في القضايا العادية.
إذا الضريبي يفرز القضايا التي تعرك وتدرك ويحيل القضايا التي يرى أنها تستأهل إلى الزبادي أو المنشد أو أهل الرسان أو الديار.
2.الزيادي:
هو الذي يختص في القضايا التي يزيد حقها عن ثمنها أو تتضاعف غرامتها فتكون مثناة أو مربعة فيختص في معالجة قضايا وسق الإبل بدون حق حيث إن وسق الإبل أو غيرها لا يجوز إلا بعد أنه يرفض المعتدي دفع ما عليه من حق لغريمه وبعد أن يرسل له ثلاث بدوات وفي كل مرة يشهد ويودع عندها يحق له وسق الإبل كي يجبر صاحبها على الانصياع للحق.
والزيادي يختص في قضايا الإبل نهبها وسقها وسرقتها وشرائها من صغية وقص وبرها, كما يعالج قضايا الأغنام كسر قتها أو الاختلاف على بيعها وقضايا العداية.
فالزيادة يختص في القضية التي تلحق مرتكبها زيادة عن قمتها نظرا لارتكابه الإثم أو وقع فيما يعرك ويدرك في مفهوم البدو. فإذا قرر الضريبي أن هذه المسألة تعرك وتدرك يرفعها إلى الزيادي ليحدد قيمة الغرامة ويخسر الجاني.
3. مناقع الدموم:
منقع الدم هو المكان الذي يجتمع فيه الدم كغدير الماء, والدموم جمع دم ويستشف من التسمية أن هؤلاء القضايا يختصون في مسائل الدم, سواء القتل أو الجروح البليغة والكسور, وفي تحديد الديات وتقدير قيمة الإصابات, ويطلق عليه اسم القصاصين أيضا, ومعظم مناقع الدموم في النقب وسيناء من قبيلة بلي مثل الهرفي وابن دلاخ وأبو دهثوم وأبو القيعان وابن حبينان.
4. أهل الديار:
هم القضاة المختصون بالأرض وكل ما يتعلق بها من بيع وشراء ورهن وارث وحدود ويطلق عليهم اسم أصحاب القطاعات أيضا. وهم غالبا ما يكونون من أصحاب الأملاك, وهم ليسوا بالضرورة من قبيلة واحدة بل نجد أن بعضهم من القرويين أمثال النجار, أبي شعث, زعرب الأسطل, ويتقاضى عندهم البدو.
• وقد قال أحدهم في حجته دالا على ملكيته الأزلية لقطعة أرض: <<من يوم انبسط ترابها وزعق غرابه وأنا كرابها>> (أي حارثها) وقال الآخر في الغرض نفسه: <<من يوم هب ريحها ونبت شيحها وأنا فليحها>>.
فحكم القاضي بشأن هذه الأرض أن هذه الأرض لمن يسبق على استملاكها من الناس وحرم المتنازعين منها لكذبهما.
5. أهل الرسان:
هم القضاة المختصون بقضايا الخيل, وهم لاشك من أصحاب الخيول الأصلية يعرفون أصولها وأنواعها وأمراضها, وتعالج عندهم المشاكل الناجمة عن بيعها أو تفييضها أو تشبيتها أو إعارتها أو سرقتها ورعيها لمزروعات الغير, وهم على علم أكيد بصفائها ونقائها وعندهم دلائل خاصة يسترشدون بها نظرا للخبرة وطول المشاهدة.
ـ هناك قضاة عديدون ينتخبهم البعض لحل المشاكل المتعلقة باختصاص كل منهم, فقد نجد أحدهم يخط لصاحبه ثلاثة من أرباب الفلايح, وهم مزارعون لديهم معرفة بشؤون الزراعة والمزارعة سواء البعلية أو المسقية وما يستحقه المزارع والشريك وصاحب الأرض.
فبعضهم يخط ثلاثة تجار إن كان الأمر متعلقا بالتجارة, وقد يخطط آخر ثلاثة صيادين لأمور الصيد, أو ثلاثة كيفية إن كان الأمر يتعلق بالكيف من قهوة وشاي أو تبع. وهناك من يقول هذا لك ثلاثة هجانة إن تعلق الأمر بالسباق أو ثلاثة كرابة قشاط كناية عن التهريب وأموره, فهم قد اعتادوا على كرب أحزمة إبلهم لينقلوا عليها المخدرات من بلاد أخرى فهم أدرى بما يتعلق بشؤون التهريب من مشاكل وقد تحال القضية مباشرة إلى ثلاثة مهربين وقد يتقاضى اثنان عند ثلاثة كتاب إن تعلق الخلاف بشأن القراءة أو الكتابة. إذن القضاة الفرعيون لا حصر لهم واكتفينا بذرك القضاة الأساسيين وأسلوب وحيثيات القضاء.
من سمات القضاة:
والقضاء يكون محصورا في عائلات معروفة ومحددة من العشائر وعلى الخاط أن يذكر اسم القاضي وكنيته كي لا يحدث التباس أو مراوغة. فعند ذكر اسم العائلة فقط قد يذهب أحد الفريقين إلى القاضي المشهور بينما يذهب القبيل إلى رجل آخر من نفس العائلة, فلا يتقابل الطرفان في مقعد واحد وإذا طولب الطرف الذي تخلف عن الحضور عند القاضي الرسمي يسأل القاضي من حضر: (أنتم سميتم) أو (خططتم قضاة مسميين أو مغميين) أي ذكرتم أسماء القضاة بأسمائهم أو بكناهم. فإن قيل من قبل الشهود أنهم مسميون يخسر الغائب القضية أما إذا قال أنهم مغميون يعاد إلى ذكر الأسماء صريحة في بيت الملم, ومعروف أن ميعاد التقاضي <<ميعاد فلج>> أي أن المتخلف يخسر ويفلج.
ـ أحيانا يتهرب القضاة من استقبال القضية والحكم بها, ويتذرعون بالشغل أو المرض وقد يكون من أسباب ذلك تفاهة القضية أو عوج المتقاضين أو الخوف من مجانبة الإنصاف أو خشية الاتهام بالميل لأحد الخصمين, خصوصا إذا كانت هناك صلة قرابة بين القاضي وأحد المتخاصمين. وقد يحيل القاضي المتخاصمين إلى قاض آخر أو إلى أحد أقاربه.
ومن المأثور أن العرب كانوا لا يفضلون أن يعملوا قضاة خشية الوقوع في الخطأ وظلم الناس <<عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال : من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين>> وقال مكحول: <<لو خيرت بين القضاء وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي>> وقد ضرب ابن هبيرة أبا حنيفة نحوا من مئة سوط مفرقة على أن يلي القضاء فأبى>>.
وإذا مرض القاضي قد يرفع الميعاد لأجل آخر أو تحال القضية إلى قاض آخر. أما إذا توفي القاضي يعين رجال القبيلة قاضيا من نفس العائلة ممن لهم خبرة في القضاء ومشهود لهم بالنزاهة وحسن التدبير.
ـ وكثيرا ما نجد القاضي يستشير بعض العقلاء في حق جريمة ما, وأحيانا يرفع الميعاد أياما وأسابيع ليكون لديه متسع من الوقت للمشاوة والتثبت.
ومن المأثور أن أحد القضاة العرب احتار بشأن إنسان قدم إليه مع قوم حين طلب منه تحديد حصة هذا المخلوق من الإرث فلم يستطيع القاضي معرفة أهو ذكر أو أنثى, فأخذ القاضي يحوش حول الخباء, فرأت ابنته حيرته وسألته عن السبب فأخبرها بأمره, فقالت على عجل <<اتبع مبوله>> فأسرع إلى القوم الذين ينتظرونه وقال <<هذا يتبع مبوله>> (أي إن كان العضو الذي يبول منه بارزا عد ذكر أو إن كان غائرا فهي انثى).
ـ والقضاء لا يبت إلا في قضايا جادة ومدركة ومكفولة, ويترفع عن هذر الرعيان وعبث الصبية سواء كان ذلك في بيت الملم أو القاضي فالقضاة لا يأخذون بتكهنات العرافين أو المنجمين والسحرة وإنما يتحرون الحقائق العلمية, ويبحثون عن العدل والإنصاف فقالوا: دورناها ولقيانها والحق الواكد ما عنه>>( بحثنا عن الحقيقة ولا مناص من الحق الأكيد).
وقالوا: <<وكاد وهرج ركاد (أي شيء أكيد وقول ناضح هادئ) كما أن نقاش القضية يجب أن يكون أمام الملأ>> في سمع وجمع <<لا وراء الكواليس وديوان وبكرج مليان>> ( في مقعد للرجال يحتسون فيه القهوة الجاهزة لا في الخلاء) وقيل <<هرج مقرع في بيت مشرع>> و<<في حنية وركبة مثنية>> (أي في مجلس عامر بالرجال الجالسين لا النائمين المضطجعين) والحديث مبني على حقائق دامغة وقالوا في علاج المماطل الذي يتهرب عن الحقيقة<<إن لقيت اللوى الوى>> (أي إن وجدت من يناطح بقرون من طين ويجادلك بغير حق جادله, واللوى مشتقة من الفعل لوى وكأن المقصود إذا وجدت من يريد لوي عنق الحقيقة فجادله سولا تستلم).
مواضيع مماثلة
» القضاء العرفي في بادية مصر
» احكام القضاء العرفي
» القضاء العرفي في سيناء
» القضاء العرفي عند الترابين
» القضاء العرفي وجهة نظر ترباني
» احكام القضاء العرفي
» القضاء العرفي في سيناء
» القضاء العرفي عند الترابين
» القضاء العرفي وجهة نظر ترباني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى