ما حكم تعلم علم المنطق، وهل صحيح أنه من العلوم المذمومة
صفحة 1 من اصل 1
ما حكم تعلم علم المنطق، وهل صحيح أنه من العلوم المذمومة
ما حكم تعلم علم المنطق، وهل صحيح أنه من العلوم المذمومة التي حذر منها السلف الصالح؟
رد: ما حكم تعلم علم المنطق، وهل صحيح أنه من العلوم المذمومة
علم المنطق من العلوم التي انتقلت للمسلمين من علوم الإغريق اليونانيين، وأول مَن وضعه هو أرسطو، فهو المؤسس الحقيقي للمنطق.
وبداية دخول المنطق إلى ديار المسلمين واشتغال بعض المتعلمين به كان في العصر العباسي، كما أشار إلى ذلك أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني حيث ذكر أنَّ أول الحوادث التي أحدثها بنو العباس إخراج كتب اليونان على يد يحيى بن خالد بن برمك، وكان وزيرًا لهارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس، فطلب كتب اليونان من الروم ([1]).
وقد أمر بترجمة كتب اليونانيين المأمون سابع خلفاء بني العباس، وشارك هو في الترجمة، وكان علم اليونانيين مرتبطًا بجانب من الخرافة والشرك، لأن نظرتهم العقلية كانت مبنية على قولهم بتعدد الآلهة، فاحتاج المسلمون إلى تنقية المنطق من آثار هذه الوثنية الإغريقية، فكلفهم هذا جهدًا كبيرًا، لأن كثيرًا من المصطلحات كانت في الأصل مصطلحات شركية، فغيُّرت في الترجمة العربية، وأصبح المنطق خالصًا منها، وكان على العلماء أن يتعلموه وينظروا فيه ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدل به الفلاسفة لنفي بعض الصفات الإلهية؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق ([2]).
ويطلق على علم المنطق تسميات عدة، منها: فن النظر، وميزان العقول، ومعيار العلم.
ويُعَرَّف علم المنطق بأنه: "آلةٌ قانونيـةٌ تعصم مراعاتُـها الذهنَ عن الخطأِ في الفكر" ([3])، فهو في الحقيقة مجموعة من القوانين العقلية التي إن راعاها الإنسان في التفكير استطاع أن يصل إلى النتائج الصحيحة الخالية من الخطأ، وهو بهذا الاعتبار علم لا يذم؛ فالعلوم لا تذم من حيث هي علوم، إنما تذم باعتبار استعمالاتها واستخداماتها، وليست كل قواعد وقوانين المنطق بديهية، بل منها ما هو بدهي ومنها ما هو نظري يحتاج إلى تأمل وتنبيه.
والتحقيق أن ما نقل من ذم تعلم المنطق والتحذير منه، إنما هو خاص بالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، يقول الشيخ المختار بن بونة الشنقيطي في منظومته في فن المنطق ([4]):
فإن تقل حرمه النواوي
وابن الصلاح والسيوطي الراوي
قلت نرى الأقوال ذي المخالفة
محلها ما صنف الفلاسفة
أما الذي خلصه مَن أسلما
لابد أن يعلما عند العلما
فالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة قد وقع فيه الخلاف على ثلاثة أقوال، أشار إليها الشيخ الأخضري بقوله:
والخلف في جواز الاشتغال
به على ثلاثة أقوال
فابن الصلاح والنواوي حرما
وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة
جوازه لكامل القريحة
ممارس السنة والكتـــاب
ليهتدي به إلى الصواب
قال شارحه الشيخ الدمنهوري: "واعلم أن هذا الخلاف إنما هو بالنسبة للمنطق المشوب بكلام الفلاسفة؛ كالذي في طوالع البيضاوي، وأما الخالص منها؛ كمختصر السنوسي، والشمسية، والسلَّم فلا خلاف في جواز الاشتغال به، بل لا يبعد أن يكون الاشتغال به فرض كفاية؛ لتوقف معرفة الشبه عليه، ومن المعلوم أن القـيام به فرض كفاية" اهـ ([5]).
والقول الأول: وهو التحريم، وهو اختيار الإمام ابن الصلاح، والنووي، وابن تيمية، وحكاه السيوطي عن كثير من العلماء ([6]).
وقيل: إن السبب في تحريم المنطق عند الإمام ابن الصلاح أنه يؤدي إلى الكبر، فإن مَن عرفه قويت حجته على غيره فاستطال عليه بلسانه، ويؤدي ذلك إلى كبره وعجبه، والكبر والعجب كلاهما من أمراض القلوب وأمراض القلوب حرام، فيحرم على الإنسان السعي في تحصيلها.
وما قاله الإمام ابن الصلاح أنه يقتضي الكبر والعجب، فيحرم تعلمه، فذلك يكون أيضًا في الحديث والنحو والصرف وفي كل العلوم، فكل هذه العلوم مَن أخذها دون تربية ودون عناية واهتمام بالإخلاص في تعلمه إياها أدى به هذا العلم إلى الكبر والعجب ([7]).
وقيل: إن السبب في حرمة علم المنطق عند الإمام النووي أنه يثير كثيرًا من الشبه العقلية، ويجهد العقول ويشغلها عما هو أهم، ومذهبه أن كل ما هو عبث فهو حرام.
ومحل ما قاله الإمام النووي هو المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، ففيه من الشبه التي تؤدي بصاحبها إلى الضلال إن لم يكن ممارسًا للكتاب والسنة، وممتلئا بالعقيدة الصحيحة، أما المشتغل والممارس للسنة والكتاب مع دقة فهمه لهما ذو العقيدة السليمة فله أن يتعلم المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الفاسد؛ ليرد حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به، ولإفحامهم بنفس أدلتهم، ومادام تعلمه لغرض دفع الشبه عن الدين انتفى كونه من العبث، فتزول حرمته، بل قد يصير واجبا في حقه.
وأما الشيخ ابن تيمية فقد ألف في الرد على المنطقيين، لكن الحاصل أنه ما كتب لنقض المنطق حتى تعلم المنطق وعرف قواعده؛ لأنه أراد نقضه من خلال قواعده، والذي توصَّل إليه هو مجرد وجود بدائل منطقية رجحها لأن تكون بدائل عن القواعد التي وضعها المناطقة قبله، فما توصل إليه مجرد منطق لكن من وجهة نظر أخرى.
والقول الثاني: أنه ينبغي أن يُعلم، وهو المحكي عن الإمام الغزالي، فقد قال في مقدمة المستصفى: " وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به, بل هي مقدمة العلوم كلها, ومَن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا " ([8]).
وما قاله الغزالي قال به عدد من المتأخرين بعده؛ كالآمدي، والبيضاوي، وابن الحاجب، وعدد من أئمة الإسلام.
وقوله في السلم "ينبغي" ذكر الشيخ الملوي في شرحه: أنه يحتمل أن يكون بمعنى يجب كفاية، ويحتمل أن يكون بمعنى يستحب ([9]).
القول الثالث: وفيه التفصيل، فيجوز تعلمه لكامل القريحة المزاول والممارس للسنة والكتاب بحيث يعرف العقائد الحقة من الباطلة، أما من لم تكمل قريحته ولم يمارس الكتاب والسنة فلا يجوز له الاشتغال به.
ومحل هذه الأقوال كما ذكرنا في السابق في المنطق المختلط بكلام الفلاسفة، أما المنطق الذي قد اعتنى العلماء المسلمين به واستخدموه في كتبهم وهو الخالي عن كلام الفلاسفة فالمختار في حكم تعلمه أنه فرض كفاية لكل مَن تصدى للدفاع عن الإسلام؛ لأن القدرة على رد الشبه لا تحصل إلا به، وردها فرض كفاية، وما يتوقف على الواجب فهو واجب.
وهو مستحب للمشتغلين بالعلوم الشرعية؛ لأن مَن لا يعرفه لا يستطيع أن يفرِّق بين صحيح العلوم وفاسدها، ولا يدركها كمال الإدراك، كما أنه يساعد على فهم المصطلحات المنطقية التي استعملها العلماء في كتبهم، فقد انتشرت المؤلفات متأثرة بهذا العلم في أصول الفقه، والفقه، وعلم الحديث، وفي علوم اللغة؛ كالنحو والصرف والبلاغة، ولا يمكن استيعاب هذه العلوم المختلفة، ولا إدراك بناء بعضها على بعض إلا بمعرفة الاصطلاحات المنطقية.
ونختم مقالنا هذا بفتوى شيخ الإسلام الإمام المجتهد الحجة تقي الدين السبكي، وفيها زبدة المراد، سئل العلامة المذكور عن رجل أراد الاشتغال بالعلوم الإسلامية فهل يكون اشتغاله بالمنطق نافعًا له ويثاب على تعلمه وهل يكون المنكر عليه جاهلا؟
فأجاب بقوله: "الحمد لله، ينبغي أن يقدم على ذلك الاشتغال بالقرآن والسنة والفقه حتى يتروى منها ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة وتعظيم الشريعة وعلمائها وتنقيص الفلسفة وعلمائها بالنسبة إلى الاعتقادات الإسلامية، فإذا رسخ قدمه في ذلك وعلم من نفسه صحة الذهن، بحيث لا تتروج عليه الشبهة على الدليل، ووجد شيخا ديِّنًا ناصحًا حسن العقيدة، أو من ليس كذلك لكنه لا يركن إلى قوله في العقائد، فحينئذ يجوز له الاشتغال بالمنطق وينتفع به ويعينه على العلوم الإسلامية وغيرها, وهو من أحسن العلوم وأنفعها في كل بحث وليس في المنطق بمجرده أصلا. ومن قال: إنه كفر أو حرام فهو جاهل لا يعرف الكفر ولا التحريم ولا التحليل؛ فإنه علم عقلي محض كالحساب غير أن الحساب لا يجر إلى فساد; لأنه إنما يستعمل في فريضة شرعية، أو مساحة، أو مال، ولا يزدري صاحبه غيره، وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة. والمنطق وإن كان سالمًا في نفسه يتعاظم صاحبه، ويزدري غيره في عينه، ويبقى يعتقد في نفسه سقاطة نظر من لا يحسنه، وينفتح له به النظر في بقية علوم الحكمة من الطبيعي الذي ليس فيه الخطأ والإلهي الذي أكثر كلام الفلاسفة فيه خطأ منابذ للإسلام والشريعة، فمن اقتصر عليه ولم تصنه سابقة صحيحة خشي عليه التزندق أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. هذا فصل القول فيه وهو كالسيف يأخذه شخص يجاهد به في سبيل الله وآخر يقطع به الطريق" اهـ ([10]).
والله تعالى أعلم.
([1]) إتحاف المحقق بموقف الإسلاميين من علم المنطق ص (22).
([2]) آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص (5).
([3]) شرح القطب الرازي على الرسالة الشمسية ص 16.
([4]) آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص (4).
([5]) إيضاح المبهم من معاني السلم للشيخ الدمنهوري ص (5).
([6]) الحاوي للفتاوي (1/255).
([7]) وقد حكي عن ابن الصلاح أنه حاول دراستها أول الأمر على يد الكمال بن يونس شيخ هذه العلوم بمدينة الموصل ولم يوفق في ذلك. التراث اليوناني ص (158)، بواسطة كتاب الآمدي وآراؤه الكلامية للدكتور حسن الشافعي ص (17).
([8]) المستصفى ص (10).
([9]) شرح الملوي على السلم (40).
([10]) فتاوى السبكي 2/ 644، 645.
وبداية دخول المنطق إلى ديار المسلمين واشتغال بعض المتعلمين به كان في العصر العباسي، كما أشار إلى ذلك أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني حيث ذكر أنَّ أول الحوادث التي أحدثها بنو العباس إخراج كتب اليونان على يد يحيى بن خالد بن برمك، وكان وزيرًا لهارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس، فطلب كتب اليونان من الروم ([1]).
وقد أمر بترجمة كتب اليونانيين المأمون سابع خلفاء بني العباس، وشارك هو في الترجمة، وكان علم اليونانيين مرتبطًا بجانب من الخرافة والشرك، لأن نظرتهم العقلية كانت مبنية على قولهم بتعدد الآلهة، فاحتاج المسلمون إلى تنقية المنطق من آثار هذه الوثنية الإغريقية، فكلفهم هذا جهدًا كبيرًا، لأن كثيرًا من المصطلحات كانت في الأصل مصطلحات شركية، فغيُّرت في الترجمة العربية، وأصبح المنطق خالصًا منها، وكان على العلماء أن يتعلموه وينظروا فيه ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدل به الفلاسفة لنفي بعض الصفات الإلهية؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق ([2]).
ويطلق على علم المنطق تسميات عدة، منها: فن النظر، وميزان العقول، ومعيار العلم.
ويُعَرَّف علم المنطق بأنه: "آلةٌ قانونيـةٌ تعصم مراعاتُـها الذهنَ عن الخطأِ في الفكر" ([3])، فهو في الحقيقة مجموعة من القوانين العقلية التي إن راعاها الإنسان في التفكير استطاع أن يصل إلى النتائج الصحيحة الخالية من الخطأ، وهو بهذا الاعتبار علم لا يذم؛ فالعلوم لا تذم من حيث هي علوم، إنما تذم باعتبار استعمالاتها واستخداماتها، وليست كل قواعد وقوانين المنطق بديهية، بل منها ما هو بدهي ومنها ما هو نظري يحتاج إلى تأمل وتنبيه.
والتحقيق أن ما نقل من ذم تعلم المنطق والتحذير منه، إنما هو خاص بالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، يقول الشيخ المختار بن بونة الشنقيطي في منظومته في فن المنطق ([4]):
فإن تقل حرمه النواوي
وابن الصلاح والسيوطي الراوي
قلت نرى الأقوال ذي المخالفة
محلها ما صنف الفلاسفة
أما الذي خلصه مَن أسلما
لابد أن يعلما عند العلما
فالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة قد وقع فيه الخلاف على ثلاثة أقوال، أشار إليها الشيخ الأخضري بقوله:
والخلف في جواز الاشتغال
به على ثلاثة أقوال
فابن الصلاح والنواوي حرما
وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة
جوازه لكامل القريحة
ممارس السنة والكتـــاب
ليهتدي به إلى الصواب
قال شارحه الشيخ الدمنهوري: "واعلم أن هذا الخلاف إنما هو بالنسبة للمنطق المشوب بكلام الفلاسفة؛ كالذي في طوالع البيضاوي، وأما الخالص منها؛ كمختصر السنوسي، والشمسية، والسلَّم فلا خلاف في جواز الاشتغال به، بل لا يبعد أن يكون الاشتغال به فرض كفاية؛ لتوقف معرفة الشبه عليه، ومن المعلوم أن القـيام به فرض كفاية" اهـ ([5]).
والقول الأول: وهو التحريم، وهو اختيار الإمام ابن الصلاح، والنووي، وابن تيمية، وحكاه السيوطي عن كثير من العلماء ([6]).
وقيل: إن السبب في تحريم المنطق عند الإمام ابن الصلاح أنه يؤدي إلى الكبر، فإن مَن عرفه قويت حجته على غيره فاستطال عليه بلسانه، ويؤدي ذلك إلى كبره وعجبه، والكبر والعجب كلاهما من أمراض القلوب وأمراض القلوب حرام، فيحرم على الإنسان السعي في تحصيلها.
وما قاله الإمام ابن الصلاح أنه يقتضي الكبر والعجب، فيحرم تعلمه، فذلك يكون أيضًا في الحديث والنحو والصرف وفي كل العلوم، فكل هذه العلوم مَن أخذها دون تربية ودون عناية واهتمام بالإخلاص في تعلمه إياها أدى به هذا العلم إلى الكبر والعجب ([7]).
وقيل: إن السبب في حرمة علم المنطق عند الإمام النووي أنه يثير كثيرًا من الشبه العقلية، ويجهد العقول ويشغلها عما هو أهم، ومذهبه أن كل ما هو عبث فهو حرام.
ومحل ما قاله الإمام النووي هو المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، ففيه من الشبه التي تؤدي بصاحبها إلى الضلال إن لم يكن ممارسًا للكتاب والسنة، وممتلئا بالعقيدة الصحيحة، أما المشتغل والممارس للسنة والكتاب مع دقة فهمه لهما ذو العقيدة السليمة فله أن يتعلم المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الفاسد؛ ليرد حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به، ولإفحامهم بنفس أدلتهم، ومادام تعلمه لغرض دفع الشبه عن الدين انتفى كونه من العبث، فتزول حرمته، بل قد يصير واجبا في حقه.
وأما الشيخ ابن تيمية فقد ألف في الرد على المنطقيين، لكن الحاصل أنه ما كتب لنقض المنطق حتى تعلم المنطق وعرف قواعده؛ لأنه أراد نقضه من خلال قواعده، والذي توصَّل إليه هو مجرد وجود بدائل منطقية رجحها لأن تكون بدائل عن القواعد التي وضعها المناطقة قبله، فما توصل إليه مجرد منطق لكن من وجهة نظر أخرى.
والقول الثاني: أنه ينبغي أن يُعلم، وهو المحكي عن الإمام الغزالي، فقد قال في مقدمة المستصفى: " وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به, بل هي مقدمة العلوم كلها, ومَن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا " ([8]).
وما قاله الغزالي قال به عدد من المتأخرين بعده؛ كالآمدي، والبيضاوي، وابن الحاجب، وعدد من أئمة الإسلام.
وقوله في السلم "ينبغي" ذكر الشيخ الملوي في شرحه: أنه يحتمل أن يكون بمعنى يجب كفاية، ويحتمل أن يكون بمعنى يستحب ([9]).
القول الثالث: وفيه التفصيل، فيجوز تعلمه لكامل القريحة المزاول والممارس للسنة والكتاب بحيث يعرف العقائد الحقة من الباطلة، أما من لم تكمل قريحته ولم يمارس الكتاب والسنة فلا يجوز له الاشتغال به.
ومحل هذه الأقوال كما ذكرنا في السابق في المنطق المختلط بكلام الفلاسفة، أما المنطق الذي قد اعتنى العلماء المسلمين به واستخدموه في كتبهم وهو الخالي عن كلام الفلاسفة فالمختار في حكم تعلمه أنه فرض كفاية لكل مَن تصدى للدفاع عن الإسلام؛ لأن القدرة على رد الشبه لا تحصل إلا به، وردها فرض كفاية، وما يتوقف على الواجب فهو واجب.
وهو مستحب للمشتغلين بالعلوم الشرعية؛ لأن مَن لا يعرفه لا يستطيع أن يفرِّق بين صحيح العلوم وفاسدها، ولا يدركها كمال الإدراك، كما أنه يساعد على فهم المصطلحات المنطقية التي استعملها العلماء في كتبهم، فقد انتشرت المؤلفات متأثرة بهذا العلم في أصول الفقه، والفقه، وعلم الحديث، وفي علوم اللغة؛ كالنحو والصرف والبلاغة، ولا يمكن استيعاب هذه العلوم المختلفة، ولا إدراك بناء بعضها على بعض إلا بمعرفة الاصطلاحات المنطقية.
ونختم مقالنا هذا بفتوى شيخ الإسلام الإمام المجتهد الحجة تقي الدين السبكي، وفيها زبدة المراد، سئل العلامة المذكور عن رجل أراد الاشتغال بالعلوم الإسلامية فهل يكون اشتغاله بالمنطق نافعًا له ويثاب على تعلمه وهل يكون المنكر عليه جاهلا؟
فأجاب بقوله: "الحمد لله، ينبغي أن يقدم على ذلك الاشتغال بالقرآن والسنة والفقه حتى يتروى منها ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة وتعظيم الشريعة وعلمائها وتنقيص الفلسفة وعلمائها بالنسبة إلى الاعتقادات الإسلامية، فإذا رسخ قدمه في ذلك وعلم من نفسه صحة الذهن، بحيث لا تتروج عليه الشبهة على الدليل، ووجد شيخا ديِّنًا ناصحًا حسن العقيدة، أو من ليس كذلك لكنه لا يركن إلى قوله في العقائد، فحينئذ يجوز له الاشتغال بالمنطق وينتفع به ويعينه على العلوم الإسلامية وغيرها, وهو من أحسن العلوم وأنفعها في كل بحث وليس في المنطق بمجرده أصلا. ومن قال: إنه كفر أو حرام فهو جاهل لا يعرف الكفر ولا التحريم ولا التحليل؛ فإنه علم عقلي محض كالحساب غير أن الحساب لا يجر إلى فساد; لأنه إنما يستعمل في فريضة شرعية، أو مساحة، أو مال، ولا يزدري صاحبه غيره، وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة. والمنطق وإن كان سالمًا في نفسه يتعاظم صاحبه، ويزدري غيره في عينه، ويبقى يعتقد في نفسه سقاطة نظر من لا يحسنه، وينفتح له به النظر في بقية علوم الحكمة من الطبيعي الذي ليس فيه الخطأ والإلهي الذي أكثر كلام الفلاسفة فيه خطأ منابذ للإسلام والشريعة، فمن اقتصر عليه ولم تصنه سابقة صحيحة خشي عليه التزندق أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. هذا فصل القول فيه وهو كالسيف يأخذه شخص يجاهد به في سبيل الله وآخر يقطع به الطريق" اهـ ([10]).
والله تعالى أعلم.
([1]) إتحاف المحقق بموقف الإسلاميين من علم المنطق ص (22).
([2]) آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص (5).
([3]) شرح القطب الرازي على الرسالة الشمسية ص 16.
([4]) آداب البحث والمناظرة للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص (4).
([5]) إيضاح المبهم من معاني السلم للشيخ الدمنهوري ص (5).
([6]) الحاوي للفتاوي (1/255).
([7]) وقد حكي عن ابن الصلاح أنه حاول دراستها أول الأمر على يد الكمال بن يونس شيخ هذه العلوم بمدينة الموصل ولم يوفق في ذلك. التراث اليوناني ص (158)، بواسطة كتاب الآمدي وآراؤه الكلامية للدكتور حسن الشافعي ص (17).
([8]) المستصفى ص (10).
([9]) شرح الملوي على السلم (40).
([10]) فتاوى السبكي 2/ 644، 645.
مواضيع مماثلة
» الغيرة المحمودة والغيرة المذمومة
» مـــــــــــــاهو المنطق
» المنطق والحظ
» من صحيح الاحاديث
» تصوف صحيح
» مـــــــــــــاهو المنطق
» المنطق والحظ
» من صحيح الاحاديث
» تصوف صحيح
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى