الشورى في القرآن
صفحة 1 من اصل 1
الشورى في القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
الشورى في القرآن:
الشورى في القرآن:
ملخص لكتاب قرأته وحاولت قدر جهدي ألا أطيل والكلمات على لسان كاتب الكتاب
وردت الشورى في القرآن الكريم في عدة مواضع، وبصيغ متعددة، وسأذكر هذه المواضع مبينا ما ذكره المفسرون حولها حيث إن هذا البحث مستمد من القرآن الكريم، ومعالجتي لهذا الموضوع في ضوئه، إذ هو من فقه القرآن. وسأبدأ بالأدلة القولية، ثم أذكر الأدلة العملية، دون التزام بترتيبها في المصحف، وسأذكر أقوال المفسرين فيما يتعلق بالشورى عند ذكر كل آية.
الموضع الأول
قال -تعالى- في سورة آل عمران: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [ سورة آل عمران، الآية 159 ].
قال سيد قطب :
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [ سورة آل عمران، الآية 159 ] "وبهذا النص الجازم يقرر الإسلام هذا المبدأ، وهو نص قاطع، لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه، أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير، وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل، وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى -لا مظهرها- فهي من الإسلام".
"لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم. اختلفت الآراء قبل معركة أحد، فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، وتحمست مجموعة أخرى، فرأت الخروج للقاء المشركين، وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف، إذ عاد عبد الله بن أبي بثلث الجيش (كما وقعت الهزيمة في المعركة)."
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف، وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة. (هكذا قد يبدو لنا الأمر)، ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمة وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى، وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحمل تبعات رأيها وتصرفها، فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ، والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة، المدركة، المقدرة للتبعة.
إن وقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات لم يلغ هذا الحق، لأن الله -سبحانه وتعالى- يعلم أنه لا بد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، فهذه كلها جزئيات، لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة، المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل، ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ].
إن حقيقة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى، وجاء دور التنفيذ، التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله .
الموضع الثاني:
قال -تعالى- في سورة الشورى: مبينا بعض صفات المؤمنين، ومثنيا عليهم في ذلك: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ].
قال سيد قطب: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وهو نص مكي، كان قبل قيام الدولة الإسلامية، فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم بعد .
الموضع الثالث:
قال -تعالى- في سورة البقرة: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [سورة البقرة، الآية: 233 ].
وقال -سبحانه- في سورة الطلاق: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [ سورة الطلاق، الآية: 6 ].
هاتان الآيتان في موضوع إرضاع الصبي، ووجوب التشاور حول فطامه، ومن يرضعه ومقدار الأجرة لذلك؟!!
قال سيد قطب في آية البقرة: "فإن شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين، لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته".
الموضع الرابع:
قوله تعالى في سورة النور: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [ سورة النور، الآية: 62 ].
قال سيد قطب: والأمر الجامع: الأمر المهم الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه، لرأي أو حرب أو عمل من الأعمال العامة، فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم، كي لا يصبح الأمر فوضى، بلا وقار ولا نظام .
الموضع الخامس :
قوله -تعالى- عن إخوة يوسف: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [سورة يوسف، الآيات: 8-10. ] ثم قال بعد ذلك: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [ سورة يوسف، الآية: 15 ].
وفي قصة السرقة التي ذكرها الله في آخر السورة، وبعد أن بذلوا محاولاتهم لأن يطلق يوسف سراح أخيهم، فلما عجزوا ماذا حدث؟ قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [ سورة يوسف، الآية: 80 ].
فهده الآيات مثال عملي على مزاولة الشورى، وهي منهج قد ألفوه، فقد تشاوروا عندما أرادوا التخلص من يوسف، وتشاوروا عندما وقعوا في مشكلة السرقة.
•وهكذا نجد إخوة يوسف -عليهم السلام - يتشاورون في قضية أخيهم ابتداء وانتهاء، مع أن تشاورهم الأول كان على أمر سوء (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) [ سورة الأنفال، الآية: 44 ] وتشاورهم الثاني للخروج من مشكلة ليست من صنيعهم وفوجئوا بها. (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [ سورة يوسف، الآية: 76 ].
الموضع السادس :
قال -تعالى- في سورة النمل، في ذكر ملكة سبأ وقصتها مع سليمان -عليه السلام-:
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) [ سورة النمل، الآية: 32 ].
قال سيد قطب: وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير، ثم قال: وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف، ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة.
الموضع السابع:
قال -تعالى- عن قصة فرعون مع موسى: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) [سورة الأعراف، الآيات: 109 - 111] وفي سورة الشعراء: (قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [ سورة الشعراء، الآيات: 34 - 36. ].
قال ابن كثير: فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله عنهم.
الموضع الثامن:
قال -تعالى- في سورة الأنفال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [ سورة الأنفال، الآية: 30 ].
قال السدي: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبي صلى الله عليه وسلم .
الموضع التاسع:
قال -تعالى- في سورة يوسف حكاية عن العزيز عندما رأى الرؤيا، حيث جمع ملأه، ثم قال لهم: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ) [ سورة يوسف، الآية: 43 ].
وهذه الآية وإن كانت في الرؤيا، ولكنها تدل على الشورى، حيث جمع أشراف قومه وحكماءهم، ولم يقصر الأمر على من يعبر الرؤيا وقد وفق في استشارته حيث وجد في الملأ من دله على من يعبر له رؤياه، وهذا من ثمرات الاستشارة.
النجوى من صور الشورى
الموضع العاشر:
وردت آيات كثيرة في التناجي والنجوى، وإن كانت النجوى ليست خاصة بالشورى والمشاورة، ولكن المشاورة صورة من الصور التي تتم عن طريق النجوى، كما قال -سبحانه- عن قوم فرعون عندما تشاوروا في موسى بناء على طلب فرعون. (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [ سورة الشعراء، الآية: 35 ] قال -سبحانه- مبينا لحالهم في تشاورهم.(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) [ سورة طه، الآية 62 ]
وردت الشورى في القرآن الكريم في عدة مواضع، وبصيغ متعددة، وسأذكر هذه المواضع مبينا ما ذكره المفسرون حولها حيث إن هذا البحث مستمد من القرآن الكريم، ومعالجتي لهذا الموضوع في ضوئه، إذ هو من فقه القرآن. وسأبدأ بالأدلة القولية، ثم أذكر الأدلة العملية، دون التزام بترتيبها في المصحف، وسأذكر أقوال المفسرين فيما يتعلق بالشورى عند ذكر كل آية.
الموضع الأول
قال -تعالى- في سورة آل عمران: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [ سورة آل عمران، الآية 159 ].
قال سيد قطب :
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [ سورة آل عمران، الآية 159 ] "وبهذا النص الجازم يقرر الإسلام هذا المبدأ، وهو نص قاطع، لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه، أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير، وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل، وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى -لا مظهرها- فهي من الإسلام".
"لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم. اختلفت الآراء قبل معركة أحد، فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، وتحمست مجموعة أخرى، فرأت الخروج للقاء المشركين، وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف، إذ عاد عبد الله بن أبي بثلث الجيش (كما وقعت الهزيمة في المعركة)."
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة، أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف، وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة. (هكذا قد يبدو لنا الأمر)، ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية، وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمة وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تربى بالشورى، وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحمل تبعات رأيها وتصرفها، فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ، والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة، المدركة، المقدرة للتبعة.
إن وقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات لم يلغ هذا الحق، لأن الله -سبحانه وتعالى- يعلم أنه لا بد من مزاولته في أخطر الشئون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، فهذه كلها جزئيات، لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة، المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل، ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي في هذا الوقت بالذات (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ].
إن حقيقة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد انتهى دور الشورى، وجاء دور التنفيذ، التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله .
الموضع الثاني:
قال -تعالى- في سورة الشورى: مبينا بعض صفات المؤمنين، ومثنيا عليهم في ذلك: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ].
قال سيد قطب: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [ سورة الشورى، الآية: 38 ] والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة، وهو نص مكي، كان قبل قيام الدولة الإسلامية، فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين، إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم بعد .
الموضع الثالث:
قال -تعالى- في سورة البقرة: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [سورة البقرة، الآية: 233 ].
وقال -سبحانه- في سورة الطلاق: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [ سورة الطلاق، الآية: 6 ].
هاتان الآيتان في موضوع إرضاع الصبي، ووجوب التشاور حول فطامه، ومن يرضعه ومقدار الأجرة لذلك؟!!
قال سيد قطب في آية البقرة: "فإن شاء الوالد والوالدة، أو الوالدة والوارث أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين، لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام، لسبب صحي أو سواه فلا جناح عليهما، إذا تم هذا بالرضى بينهما، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته، المفروض عليهما حمايته".
الموضع الرابع:
قوله تعالى في سورة النور: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [ سورة النور، الآية: 62 ].
قال سيد قطب: والأمر الجامع: الأمر المهم الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه، لرأي أو حرب أو عمل من الأعمال العامة، فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم، كي لا يصبح الأمر فوضى، بلا وقار ولا نظام .
الموضع الخامس :
قوله -تعالى- عن إخوة يوسف: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [سورة يوسف، الآيات: 8-10. ] ثم قال بعد ذلك: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [ سورة يوسف، الآية: 15 ].
وفي قصة السرقة التي ذكرها الله في آخر السورة، وبعد أن بذلوا محاولاتهم لأن يطلق يوسف سراح أخيهم، فلما عجزوا ماذا حدث؟ قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [ سورة يوسف، الآية: 80 ].
فهده الآيات مثال عملي على مزاولة الشورى، وهي منهج قد ألفوه، فقد تشاوروا عندما أرادوا التخلص من يوسف، وتشاوروا عندما وقعوا في مشكلة السرقة.
•وهكذا نجد إخوة يوسف -عليهم السلام - يتشاورون في قضية أخيهم ابتداء وانتهاء، مع أن تشاورهم الأول كان على أمر سوء (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) [ سورة الأنفال، الآية: 44 ] وتشاورهم الثاني للخروج من مشكلة ليست من صنيعهم وفوجئوا بها. (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [ سورة يوسف، الآية: 76 ].
الموضع السادس :
قال -تعالى- في سورة النمل، في ذكر ملكة سبأ وقصتها مع سليمان -عليه السلام-:
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) [ سورة النمل، الآية: 32 ].
قال سيد قطب: وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير، ثم قال: وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف، ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة.
الموضع السابع:
قال -تعالى- عن قصة فرعون مع موسى: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) [سورة الأعراف، الآيات: 109 - 111] وفي سورة الشعراء: (قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [ سورة الشعراء، الآيات: 34 - 36. ].
قال ابن كثير: فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله عنهم.
الموضع الثامن:
قال -تعالى- في سورة الأنفال: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [ سورة الأنفال، الآية: 30 ].
قال السدي: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبي صلى الله عليه وسلم .
الموضع التاسع:
قال -تعالى- في سورة يوسف حكاية عن العزيز عندما رأى الرؤيا، حيث جمع ملأه، ثم قال لهم: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ) [ سورة يوسف، الآية: 43 ].
وهذه الآية وإن كانت في الرؤيا، ولكنها تدل على الشورى، حيث جمع أشراف قومه وحكماءهم، ولم يقصر الأمر على من يعبر الرؤيا وقد وفق في استشارته حيث وجد في الملأ من دله على من يعبر له رؤياه، وهذا من ثمرات الاستشارة.
النجوى من صور الشورى
الموضع العاشر:
وردت آيات كثيرة في التناجي والنجوى، وإن كانت النجوى ليست خاصة بالشورى والمشاورة، ولكن المشاورة صورة من الصور التي تتم عن طريق النجوى، كما قال -سبحانه- عن قوم فرعون عندما تشاوروا في موسى بناء على طلب فرعون. (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) [ سورة الشعراء، الآية: 35 ] قال -سبحانه- مبينا لحالهم في تشاورهم.(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) [ سورة طه، الآية 62 ]
hassnae- Admin
-
عدد الرسائل : 3845
العمر : 46
المزاج : جيد
الاوسمة :
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 04/11/2009
مواضيع مماثلة
» القرآن الكريم
» شاب يقرأ القرآن وهو يحتضر ****
» تعدد قراءات القرآن
» الكلام المتناقض في القرآن
» الكلام الغريب في القرآن
» شاب يقرأ القرآن وهو يحتضر ****
» تعدد قراءات القرآن
» الكلام المتناقض في القرآن
» الكلام الغريب في القرآن
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى