الأناء المصدوع
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الأناء المصدوع
الإناء المصدوع
تقول الحكايةُ الصينيةُ إن امرأة عجوزًا كانت كلَّ صبحٍ تذهبُ إلى البئر حاملةً فوق كتفها عصا مُعلّقا بها إناءان من الفخار. أحدُهما سليمٌ ترجع البيتَ به مملوءًا بالماء لحافته، أما الآخرُ ففي قاعه شرخٌ طفيف يتسرّب منه نصفُ الماء في الطريق. وخلال عامين كان الإناءُ السليم يباهي بصحّته واكتماله، فيما بدا المصدوعُ حزينا. قال للسيدة ذات مساءٍ وهو مُطرقٌ في أسفه: لَكَم أودُّ أن أعتذرَ لكِ عن عطبي الذي يُفقدك نصفَ مائي كل يوم! فابتسمتْ وقالت: ألم تلحظْ يا صديقي الطيب صفَّ الزهور الممتدَ على جانب الطريق من البئر حتى بيتنا؟ هو على جانبك أنت، وليس على جانب الإناء السليم الذي يفاخركَ باكتماله. ذاك أنني انتبهتُ لما تسميه "عطبا" فيك، فبذرتُ البذورَ في ناحيتك. وعلى مدى عامين ملأتُ بيتي بالزهور التي رواها الماءُ المنسربُ من شرخِك. بيتي يا عزيزي مَدينٌ لك بهذا الجمال!
وكثيرة هي الحكايات التي تؤكد لنا أن ثمة جمالا في كل عيب، وثمة نورا داخل كل عتمة، وأن في النقص اكتمالا. بل إن الاكتمالَ التامَ هو العيبُ، هو النقصُ، ليس فقط لأنه محضُ وهمٍ، بل لأن في النقصِ وجاهةً ورقيًّا ونبلا أيضًا. في النقص رقّة وعذوبة. في النقص شيءٌ من الإنسانية وشيءٌ من النبوّة. ولهذا يتعمد الفُرْس تركَ غرزةٍ معطوبة في سجاجيدهم العجمية فائقة الجمال باهظة الثمن. ولهذا أيضا بتر الرومانُ تماثيلَ حسناواتهم الرخامية. لأن الجمالَ لا يتأكد إلا عبر مسحة من الخلل تُكرّس فرادتَه.
وفي يوم 25 ديسمبر العام 1642، هتفتِ القابلةُ: "يا إلهي! إنه أصغر مولود رأته عيناي، انظروا، بوسعي وضعه في كوب صغير! لن يعيش هذا المخلوقُ سوى يوم أو بعض يوم!". هكذا هتفت بدهشة ممزوجة بحزن حينما استقبلتِ الطفلَ الهزيل الذي ستُكتب له الحياة رغم حدسها. صحيحٌ أنه سيحمل طوال عمره جسدا ضعيفا مهزولا، وصحيحٌ أن أقرانه في المدرسة سيجعلون منه مادةً لتندّرهم وسخريتهم، حتى أن أحدهم سيبطش به ويصرعه أرضا بقبضة يده وسط ضحكات الرفاق، لكن هذا الذي حُدِسَ له بالموت المبكّر سيعمّر خمسا وسبعين سنةً، وسيحمل دماغُه الهزيلُ عقلا ليس فقط غير هزيل، ولا هو حتى عقلٌ مساو لأقرانه الأشدّاء، بل سيوهب مخٌّ يبزُّ البشريةَ حدّة وتفردًا وذكاء وألقًا. مخٌّ فائقٌ نادرُ الوجود حتى أنه سيغدو القيمةَ المعياريةَ القصوى على مقياس معدّل الذكاء Intelligence Quotient (I.Q.) المعروف. الطفلُ اسمه اسحق نيوتن الذي سينال اللقبَ الإنجليزي رفيع الشأن "سير" لأنه سيغيّر من مسار العلوم والفيزياء بقوانينه التي وصفها آينشتين، بعد ذلك بثلاثة قرون، بقوله: "إن كل ما عُرف من العلوم الطبيعية النظرية مَدين لنيوتن، كلها ليست سوى امتداد طبيعي لآرائه". بل إن لقبه "نيوتن" Newton سوف ُيطلق بعدئذ على وحدة القوة الفيزيائية. وهي مقدار القوة التي لو أثّرت على كيلوجرام واحد لأكسبتها سرعةً تعجيلية acceleration مقدارها مترٌ في كل ثانية.
وكثيرون هم العظام الذين لم تكن طفولتهم سوى بعض "صفر"، بمعاييرنا الساذجة، بما لا ينبئ بعبقرية قادمة. لكنها الحياةَ تحب دوما أن تشاكسَ البشر قائلة ها هي توقعاتكم أخطأت! فمتى تتعلمون ألا تتعجلوا الحكم؟ وماذا نقول عن آينشتين الذي كان المعلم يطرده في طفولته من الفصل ناصحا والديه أن يسحبوه من المدرسة لأن قدراته العقلية محدودةٌ وغير قادر على التفاعل والاستيعاب. كان آينشتين متوحّدا وآمن والده بخلله، لكن أمه لم تؤمن إلا بتميز ابنها. آمنت أنها قادرةٌ على صناعة معجزة ما. فجنّدت له كتيبةً من المعلمين وأطباء التخاطب وخبراء في تنمية القدرات الاجتماعية فكان أن قدمت للعالم نابغةً غيّر مسار البشرية بنظريتيه الفذتين النسبية العامة والنسبية الخاصة. وماذا نقول عن درّة عقدنا طه حسين الذي نذره أبوه لتعلم القرآن وحفظه آملا، في أحسن الأحوال، أن يغدو مُقرئا على الموتى عند الأضرحة لقاء بعض التمر والفطائر، سوى أن القدر خبأ للدنيا عقلا تنويريا فذًّا أقدر مطمئنةً أن أقولَ عنه: "ظالمُ العزمِ عَلِيُّ الارتقاء"، على وزن "ظالمُ الحسنِ شهيُّ الكبرياء"، كما وصف إبراهيم ناجي حبيبتَه.
وكثيرة هي الحكايات التي تؤكد لنا أن ثمة جمالا في كل عيب، وثمة نورا داخل كل عتمة، وأن في النقص اكتمالا. بل إن الاكتمالَ التامَ هو العيبُ، هو النقصُ، ليس فقط لأنه محضُ وهمٍ، بل لأن في النقصِ وجاهةً ورقيًّا ونبلا أيضًا. في النقص رقّة وعذوبة. في النقص شيءٌ من الإنسانية وشيءٌ من النبوّة. ولهذا يتعمد الفُرْس تركَ غرزةٍ معطوبة في سجاجيدهم العجمية فائقة الجمال باهظة الثمن. ولهذا أيضا بتر الرومانُ تماثيلَ حسناواتهم الرخامية. لأن الجمالَ لا يتأكد إلا عبر مسحة من الخلل تُكرّس فرادتَه.
وفي يوم 25 ديسمبر العام 1642، هتفتِ القابلةُ: "يا إلهي! إنه أصغر مولود رأته عيناي، انظروا، بوسعي وضعه في كوب صغير! لن يعيش هذا المخلوقُ سوى يوم أو بعض يوم!". هكذا هتفت بدهشة ممزوجة بحزن حينما استقبلتِ الطفلَ الهزيل الذي ستُكتب له الحياة رغم حدسها. صحيحٌ أنه سيحمل طوال عمره جسدا ضعيفا مهزولا، وصحيحٌ أن أقرانه في المدرسة سيجعلون منه مادةً لتندّرهم وسخريتهم، حتى أن أحدهم سيبطش به ويصرعه أرضا بقبضة يده وسط ضحكات الرفاق، لكن هذا الذي حُدِسَ له بالموت المبكّر سيعمّر خمسا وسبعين سنةً، وسيحمل دماغُه الهزيلُ عقلا ليس فقط غير هزيل، ولا هو حتى عقلٌ مساو لأقرانه الأشدّاء، بل سيوهب مخٌّ يبزُّ البشريةَ حدّة وتفردًا وذكاء وألقًا. مخٌّ فائقٌ نادرُ الوجود حتى أنه سيغدو القيمةَ المعياريةَ القصوى على مقياس معدّل الذكاء Intelligence Quotient (I.Q.) المعروف. الطفلُ اسمه اسحق نيوتن الذي سينال اللقبَ الإنجليزي رفيع الشأن "سير" لأنه سيغيّر من مسار العلوم والفيزياء بقوانينه التي وصفها آينشتين، بعد ذلك بثلاثة قرون، بقوله: "إن كل ما عُرف من العلوم الطبيعية النظرية مَدين لنيوتن، كلها ليست سوى امتداد طبيعي لآرائه". بل إن لقبه "نيوتن" Newton سوف ُيطلق بعدئذ على وحدة القوة الفيزيائية. وهي مقدار القوة التي لو أثّرت على كيلوجرام واحد لأكسبتها سرعةً تعجيلية acceleration مقدارها مترٌ في كل ثانية.
وكثيرون هم العظام الذين لم تكن طفولتهم سوى بعض "صفر"، بمعاييرنا الساذجة، بما لا ينبئ بعبقرية قادمة. لكنها الحياةَ تحب دوما أن تشاكسَ البشر قائلة ها هي توقعاتكم أخطأت! فمتى تتعلمون ألا تتعجلوا الحكم؟ وماذا نقول عن آينشتين الذي كان المعلم يطرده في طفولته من الفصل ناصحا والديه أن يسحبوه من المدرسة لأن قدراته العقلية محدودةٌ وغير قادر على التفاعل والاستيعاب. كان آينشتين متوحّدا وآمن والده بخلله، لكن أمه لم تؤمن إلا بتميز ابنها. آمنت أنها قادرةٌ على صناعة معجزة ما. فجنّدت له كتيبةً من المعلمين وأطباء التخاطب وخبراء في تنمية القدرات الاجتماعية فكان أن قدمت للعالم نابغةً غيّر مسار البشرية بنظريتيه الفذتين النسبية العامة والنسبية الخاصة. وماذا نقول عن درّة عقدنا طه حسين الذي نذره أبوه لتعلم القرآن وحفظه آملا، في أحسن الأحوال، أن يغدو مُقرئا على الموتى عند الأضرحة لقاء بعض التمر والفطائر، سوى أن القدر خبأ للدنيا عقلا تنويريا فذًّا أقدر مطمئنةً أن أقولَ عنه: "ظالمُ العزمِ عَلِيُّ الارتقاء"، على وزن "ظالمُ الحسنِ شهيُّ الكبرياء"، كما وصف إبراهيم ناجي حبيبتَه.
انابيل- Admin
-
عدد الرسائل : 2781
الاوسمة :
السٌّمعَة : 28
تاريخ التسجيل : 25/01/2008
رد: الأناء المصدوع
mazen/ كتب:مشكور جدا يا استاذ
اهلين يا استاذ
سعدتُ بمرورك العطر
انابيل- Admin
-
عدد الرسائل : 2781
الاوسمة :
السٌّمعَة : 28
تاريخ التسجيل : 25/01/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى